ما كُـلُّ مَن حج بيت الله مَـبرورُ - مقالة -


ما كُـلُّ مَن حج بيت الله مَـبرورُ


الحج شعيرة إسلامية وركن به يتحقق المسلم بمعنى الإسلام وهو رحلة يسافر فيها العبد مرتحلا عن أهله وماله وولده إلى ربه متجرِّداً عن الدنيا وغرورها منصرفاً عما فيها من مظاهر الزينة والزخرف يحدوه الأمل في قبول تلبـيـتـه واستجابة دعوته في رحلته إلى بلدٍ :
بها كعبة الحُسن التي لِجَمالها
قلوب أولي الألباب لبَّت وحجَّتِ

وإذا كان في إدراك الـعـقــلاء مقاصد الشريعة من الأوامر والنواهي ما تستأنس به نفوسهم فيكون ذلك مريحاً لها معينا على أداء الأوامر بجميع شرائطها وأركانها ، فإن الله سبحانه قد وظَّـف على عباده أوامراً ونواهياً لم يجعل للنفس حظاً فيها ، ولم يجعل للعقل سبيلا للوقوف على كثيرٍ من حِـكَـمِـها ومعانيها .

ومن هذه الأعمال فريضة الحج وما فيه من طواف وسعي ورمي وتجرُّد عن المخيط والمُـحيط وغير ذلك ، فلعل في تشريعها على هذا الوصف ما يُـحَـقِّـق الإنسان بمعنى عبوديَّته لله تعالى لأنه يقوم بأعمالٍ وحركاتٍ لا معنى لها غير الانـقـياد التام والطاعة المطلقة وهذا هو أظهر معاني العبودية وهو مقصود الحج الأعظم .

وكأني بالحاج حين يقترب من تلكم البقاع المقدسة التي ستكون برهانه ووسيلته ليُـظهر لِـمَـولاه أبلغ صورةٍ من صور عبوديته له ، كأني به في تلك الساعة يخاطب قائد طائرته أو سيارته:
خفِّف الوَطءَ واتَّئِد يا حادي
إنما أنت سائقُُ بِفؤادي
ما ترى العيسَ بين سَوْقٍ وشوقٍ
لِربيع الرُّبوع غَرثى صَوادي
يا سميري رَوِّح بمكة رُوحِي
شادياً إن رغبت في إسعادي


بل كأني به حين يصل تلك البقاع وتكتحل عيناه برؤية تلكم المشاهد ويفيض قلبه بمشاعر المهابة والجلال يتغنى ويقول :
القلب يحسد عيني لذَّة النَّظر
والعين تحسد قلبي لذَّة الفكر


من أجل ذلك ما رؤي الشيطانُ في يومٍ أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة .

ومن أجل ذلك كان الحج موضعاً تُـحطُّ فيه الأوزار وتغفر فيه الزلات وتقال العثرات ، ويَــحسن فيه ترك كثير من مظاهر التنعُّـم والترفُّه من المباحات ، ويتأكد فيه اجتناب سائر المحرمات بل تـتـأكد مضاعفة السيئات.

ذلك أن المعصية كما يقول العلماء وإن كانت فاحشة في ذاتها فإنها في فناء بيت الله أفحش ، وقد روي عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
ما من بلد يؤاخذُ فيه العبد بالنية قبل العمل إلا مـكَّـة ،ثم تلا : ( ومن يُرِد فيه بإلحاد بظلم نُـذِقهُ من عذاب أليم ) فجعل الحساب على الإرادة المجرَّدة .

وقال ابن المنيِّـر رحمه الله : ( اعلم أن تضييعه لِصلاةٍ واحدة سيئةٌ عظيمة لا توفِّيها حسنات الحج )

فوا عجباً لِعبدٍ سافر للحج قاصداً بيت مالك الملك و ملك الملوك ، وهو على غير حال الذِّلَّة والافتقار بحيث يستكثر من مظاهر الزينة ، وأطايب الأطعمة ، وسبل العيش الرغيد ، غير هيَّابٍ من ارتكاب المحرمات أو إسقاط الواجبات .

كيف لا يخجل حين يلهج إلى الله في الدعاء وهو مستهين به مستـخِـفٌّ بأوامره .

وقد قال أبو عبد الله ابن الحاج العَبدري رحمه الله في كتابه ( المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النِّـيَّـات ) : إذا علم المُـكلَّف أنه تفوته صلاةٌ واحدة إذا خرج إلى الحج فقد سقط عنه الحج لِـفَـقدِهِ شرط الاستطاعة .

وقال المحب الطبري رحمه الله في منسكه : والعجب من قوم يأخذون أنفسهم بحج الـتَّـطَـوُّع مع كونهم لا يَسلَمُون فيه من إخراج الصلوات المفروضات عن وقتها وغير ذلك من المعاصي وهذه خسارة وجهالة .

وقد يتجاسر بعض الناس ويرتكب شيئا من محظورات الحج ويقول : الفدية تُـخلِّصني من الإثم ، فإن ذلك كما يقول الشيخ خليل بن إسحاق بمنزلة من يقول : أنا أشرب الخمر والـحَدُّ يطهِّـرني .

وقديما ذكر فقهاؤنـا رحمهم الله حواراً رمزياً عن أحد الطلبة المغاربة وهو أنه اختصم شياطين المشرق والمغرب أيهما أكثر غواية ؟ فقال شياطين المشرق لشياطين المغرب : نحن أشدُّ منكم غواية ، لأنَّـا نحمل المرء على المعاصي وارتكاب المحظورات في مقامات الأنبياء عليهم السلام فقال شياطين المغرب :
نحن أشد لأنَّـا نجد الرجل في أهله وولده يؤدي الفرائض من الصلاة والزكاة وغير ذلك وهو في راحة وملائكته معه كذلك من قلَّة التَّبعات ، فإذا قال القوَّال في التشويق إلى أرض الحجاز ننخسُهُ بِسِكِّين فيبكي ، ونحمله على الخروج فيخرج ، فَـمِـن يومِ يَـخرُج نَـحمِـلُهُ على ترك الفرائض وارتكاب المحظورات من يوم خروجه إلى يوم دخولـه إلى أهله ، فَـخَـسِـر في نفسه ومالِـهِ ودينه . فسلَّم شياطين المشرق لشياطين المغرب شِـدَّة الغواية . قال الإمام الـبُـرزُلِـي رحمه الله : وقد شاهدت في سفري للحج بعض هذا .

فإذا علم العبد من نفسه أنه يُــفتن في دينه فيقع في كثير من المنكرات أو إسقاط شيءٍ من الواجبات بسبب الزحام أوغيره . فقد كره له العلماء أن يُـقدم على الحج ، لأن ما يفوته من الثواب أكبر مما يُـحصِّـله من أجر الحج ، كما قال ابن المنـيِّـر : اعلم أن تضييعه لصلاةٍ واحدة سيِّـئةٌ عظيمة لا توفِّيها حسنات الحج .

خاصة إذا أدرك شرف المشاعر التي يقف عليها وعجزه عن القيام بِـحقِّها من التعظيم والإجلال ، وقصوره عن احترام الموضع الذي هو راحل إليه ، ورُبَّـما لم يكن له من سفره غير مزاحمة المسلمين ومضايقتهم ، وهي آثام تزيد على ما يُـحصِّـلُهُ من أجر الحج .

ورحم الله القائل :
لا يقبل الله إلا كلَّ طيبةٍ
ما كلُّ من حج بيت الله مبرورٌ
لا تنسونا بخالص الدعاء

ليست هناك تعليقات

شاركنا برأيك